تحت الطاولة عشرات الارجل تهرول باتجاه الرغبة بمحاذاة الطاولة عشرات الايدي تتلامس باتجاه القلب
هبّ الأعصار هدأت الأرجل طارت الايدي انطفأت الشمعة مدن تئن وذكريات تغرق عبارة عن كتاب توثيقي شبه رسمي وصادق لأعصار جونو الذي اجتاح عمان 2007، حاول الكاتب فيه ان يدوّن فيه يومياته ويروي تجربته لا غير، ولا اتفق او ابالغ مع من يقول أان الكتاب تحفة شعرية او نثرية او يحتوي على عمق البتة، ربما ما قرأت في رواية (القنافذ في يوم ساخن) لفلاح رحيم عن اعصار غونو ما كان اروع واعمق واكثر تصويراً من هذا الكتاب
ما الذي يدفع الشخص بأنّ يوثق كارثة طبيعيّة في كتاب؟ في رأيي، أن الأمر لا يتعلق بالكارثة فحسب؛ وإنما بالحدث بصورته الكاملة، فـمثلاً جميعنا على الأقل نعرف أن الإعصار شيء مُدمر وغير قابل للردع، تثور الطبيعة وعلينا أن نستسلم وندعها تدمر ما تشاء، ولكن نحاول بكل جُهدنا أن لا نتعرض لخسارات بشرية والتي بالطبع غير قابلة للتعويض؛ أما الحدث الخاص بالإعصار، النفس البشرية في مواجهة شيء ضخم ومدمر للغاية، الخوف، الهلع، القوة، القابلية للعمل، الدمار يليه البناء، التلاحم، مفردات ومفردات لا تجتمع إلا في حالات الكوارث، والتي فعلاً تدعو إلى التأمل.
"مدن تئن وذكريات تغرق" هذا الكتاب لم يعرض كارثة إعصار جونو بهذه الصورة، لم أجده وثائقي، وللأسف الشديد لم أجده أدبي كذلك، ولا أعتقد حقيقة أن هذا الكتاب يتعلق بالإعصار بقدر ما يتعلق بالكاتب أثناء الإعصار، ولا أعارض الفكرة على العكس من حق كل شخص يرغب بمشاركة حكايته بأن يحكيها، لكن الحكاية هنا لا تُثير اهتمامي، عبارة عن مجموعة لا نهائية من أسماء أشخاص اتصلوا\تواصلوا مع الكاتب للإطمئنان عليه مع شويّة إعصار.
إعصار جونو كان كارثي، خسرنا فيه أكثر من 49 من الأرواح البشريّة، وخسرت مسقط ملامحها الجميلة، إعصار جونو كان جبار، حسب مساره تنبأت الأرصاد الجوية بأنّه سيضرب جزيرة عمانية تُدعى مصيرة، لذلك عملت السلطنة على إخلاء جميع سكانها وتقديم مصيرة قرباناً للإعصار، ولكن بكل بطش ما إن يصل الإعصار حتى يغير من مساره إلى العاصمة مسقط، وبما أن هذا الكتاب أول عمل أدبي يتعامل مع موضوع الإعصار، توقعت منه الكثير، لكنّه خيّب آمالي وتوقعاتي . أتمنى في يوماً من الأيام أن أقرأ عمل جميل يخص موضوع جونو، عمل يبقى مع مرور الزمن، يعزّي الضحايا ويعتذر منهم، يتحدث عن تحول مسقط الجميلة إلى مسقط العامرة، والأهم أن يعزز الوعي والسلامة لأنّ شريحة كبيرة من الناس كانت ترفض تصديق أخبار الأرصاد الجويّة، الأمر صعب لكن عليك أن تقبل تصديقه، لأن الكوارث الطبيعية تقع ولا تحدث فقط في الدول البعيدة، من الممكن أن تحدث في دولتك.
معلومات بسيطة عن إعصار جونو: إن لم يمر عليك هذا الاسم: إعصار جونو هو إعصار مداري، يعتبر من أقوى الأعاصير التي مرّت على شواطئ بحر العرب، تضررت عدد من الدول من الإعصار ومن توابع الإعصار، ولكن الضرر الأكبر كان من نصيب الجميلة عُمان، وكان في يونيو 2007 ، وجونو يعني الحقيبة المصنوعة من سعف النخيل بلغة سكان المالديف، وهذا المعنى بالعمانية يُدعى "القفير".
نعلم أن الكوارث الطبيعة تحدث، وستستمر في الحدوث، هذا قانون الطبيعة ولا أحد يعترض عليه، ولكن نأمل أن نتعامل معها بفهم كُلي وبـ وعي أكبر.
"مدن تئن وذكريات تغرق" أول عمل يتعامل مع موضوع جونو الذي دمر مسقط في يونيو 2007 بكتابة إبداعية شعرية ونثرية، وكيف لا يكون كذلك والكاتب شاعر معروف ومبدع صادق لا يختلف إثنان على عمق تجربته، وحقيقة حينما بدأت بقراءة السطر الأول من المسودة لم أقف إلا عند سطرها الأخير. يجعلك هذا المنجز الإبداعي الذي يميزج فيه الشعري بالروائي والتشكيلي بالسيري بالوثائقي وجهاً لوجه مع بطش جونو وهو يعصف بالجمال والحضارة (مسقط)، لتكون حروفه المحملة بندى الألم شاهداً على تفاصيل عجائبية لهذا الحدث الكارثي، حتى لتتسائل كيف استطاع الشاعر عبد الرازق الربيعي أن يجعل من جونو عتبة دلالية تنفذ من خلالها إلى عالمه الفكري والثقافي والنفسي؟! وكيف استدرج متخيلك لتصغي إلى أنين بغداد تحت إعصار الإحتلال؟! وكيف تحرك هذا الطوفان ليعصف بالذاكرة فيهز جذوعها لتغدق على المشهد الإبداعي نصوصاً مترعة بالدهشة والجدة وعبر تقنيات فنية توصلك إلى نبض الحدث التراجيدي وتشغيل واع للخزين الأسطوري الذي تلمح من خلاله وجهاً جديداً لخمبابا الذي تماهت ملامحه مع شراسة جونو، ولجلجامش الذي تحرك على مساحة النص غير مصدق بأنه هو الذي رأى هول بحار الموت والحروب ونجا منها بإعجوبة لم يصدق بأن جونو كان أن يعصف به وإلى الأبد وعبر مفارقات طريفة اقتربت من التراجيكوميديا؟!